الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (166): {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)}قوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ} أي فلما تجاوزوا في معصية الله. {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} يقال: خسأته فخسأ، أي باعدته وطردته. وقد تقدم في البقرة. ودل على أن المعاصي سبب النقمة: وهذا لا خفاء به. فقيل: قال لهم ذلك بكلام يسمع، فكانوا كذلك.وقيل: المعنى كوناهم قردة..تفسير الآية رقم (167): {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)}أي أعلم أسلافهم أنهم إن غيروا ولم يؤمنوا بالنبي الأمي بعث الله عليهم من يعذبهم.وقال أبو علي: {أذن} بالمد، أعلم. و{أذن} بالتشديد، نادى.وقال قوم: آذن وأذن بمعنى أعلم، كما يقال: أيقن وتيقن. قال زهير:وقال آخر: أي اعلم. ومعنى {يَسُومُهُمْ} يذيقهم، وقد تقدم في البقرة. قيل: المراد بخت نصر.وقيل: العرب.وقيل: أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أظهر، فإنهم الباقون إلى يوم القيامة. والله أعلم. قال ابن عباس: {سُوءَ الْعَذابِ} هنا أخذ الجزية. فإن قيل: فقد مسخوا، فكيف تؤخذ منهم الجزية؟ فالجواب أنها تؤخذ من أبنائهم وأولادهم، وهم أذل قوم، وهم اليهود. وعن سعيد بن جبير {سُوءَ الْعَذابِ} قال: الخراج، ولم يجب نبي قط الخراج، إلا موسى عليه السلام هو أول من وضع الخراج، فجباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك، ونبينا عليه السلام. .تفسير الآية رقم (168): {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}قوله تعالى: {وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} أي فرقناهم في البلاد. أراد به تشتيت أمرهم، فلم تجمع لهم كلمة. {منهم الصالحون} رفع على الابتداء. والمراد من آمن بمحمد عليه السلام. ومن لم يبدل منهم ومات نسخ شرع موسى. أو هم الذين وراء الصين، كما سبق. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ} منصوب على الظرف. قال النحاس: ولا نعلم أحدا رفعه. والمراد الكفار منهم. {وَبَلَوْناهُمْ} أي اختبرناهم. {بِالْحَسَناتِ} أي بالخصب والعافية. {وَالسَّيِّئاتِ} أي الجدب والشدائد. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ليرجعوا عن كفرهم..تفسير الآية رقم (169): {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)}قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يعني أولاد الذين فرقهم في الأرض. قال أبو حاتم: {الخلف} بسكون اللام: الأولاد الواحد والجميع فيه سواء. و{الخلف} بفتح اللام البدل، ولدا كان أو غريبا.وقال ابن الأعرابي: {الخلف} بالفتح الصالح، وبالجزم الطالح. قال لبيد:وبقيت في خلف كجلد الأجرب ومنه قيل للرديء من الكلام: خلف. ومنه المثل السائر {سكت ألفا ونطق خلفا}. فخلف في الذم بالإسكان، وخلف بالفتح في المدح. هذا هو المستعمل المشهور. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله». وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال حسان بن ثابت: وقال آخر: ويروى: خضف، أي ردم. والمقصود من الآية الذم. {وَرِثُوا الْكِتابَ} قال المفسرون: هم اليهود، ورثوا كتاب الله فقرءوه وعلموه، وخالفوا حكمه وأتوا محارمه مع دراستهم له. فكان هذا توبيخا لهم وتقريعا. يأخذون عرض هذا الأدنى ثم أخبر عنهم أنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدة حرصهم ونهمهم. {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا} وهم لا يتوبون. ودل على أنهم لا يتوبون. قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} والعرض: متاع الدنيا، بفتح الراء. وبإسكانها ما كان من المال سوى الدراهم والدنانير. والإشارة في هذه الآية إلى الرشا والمكاسب الخبيثة. ثم ذمهم باغترارهم في قولهم {سَيُغْفَرُ لَنا} وأنهم بحال إذا أمكنتهم ثانية ارتكبوها، فقطعوا باغترارهم بالمغفرة وهم مصرون، وإنما يقول سيغفر لنا من أقلع وندم. قلت: وهذا الوصف الذي ذم الله تعالى به هؤلاء موجود فينا. أسند الدارمي أبو محمد: حدثنا محمد بن المبارك حدثنا صدقة بن خالد عن ابن جابر عن شيخ يكنى أبا عمرو عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرءونه لا يجدون له شهوة ولا لذة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله شيئا.وقيل: إن الضمير في {يَأْتِهِمْ} ليهود المدينة، أي وإن يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض مثله يأخذوه كما أخذه أسلافهم. قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} فيه مسألتان. الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ} يريد التوراة. وهذا تشديد في لزوم قول الحق في الشرع والأحكام، وألا يميل الحكام بالرشا إلى الباطل. قلت: وهذا الذي لزم هؤلاء واخذ عليهم به الميثاق في قول الحق، لازم لنا على لسان نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتاب ربنا، على ما تقدم بيانه في النساء. ولا خلاف فيه في جميع الشرائع، والحمد لله.الثانية: قوله تعالى: {وَدَرَسُوا ما فِيهِ} أي قرءوه، وهم قريبو عهد به. وقرأ أبو عبد الرحمن وادرسوا ما فيه فأدغم التاء في الدال. قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا له كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له.وقال ابن عباس: {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} وقد قالوا الباطل في غفران ذنوبهم الذي يوجبونه ويقطعون به.وقال ابن زيد: يعني في الأحكام التي يحكمون بها، كما ذكرنا.وقال بعض العلماء إن معنى {وَدَرَسُوا ما فِيهِ} أي محوه بترك العمل به والفهم له، من قولك: درست الريح الآثار، إذا محتها. وخط دارس وربع دارس، إذا امحى وعفا أثره. وهذا المعنى مواطئ- أي موافق- لقوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ 10} الآية. وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ}. حسب ما تقدم بيانه في البقرة. .تفسير الآية رقم (170): {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ 170} أي بالتوراة، أي بالعمل بها، يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به. وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر {يمسكون} بالتخفيف من أمسك يمسك. والقراءة الأولى أولى، لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يمدحون. فالتمسك بكتاب الله والدين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك.وقال كعب بن زهير:فجاء به على طبعه يذم بكثرة نقض العهد. .تفسير الآية رقم (171): {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} {نَتَقْنَا} معناه رفعنا. وقد تقدم بيانه في البقرة. {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي كأنه لارتفاعه سحابة تظل. {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} أي بجد. وقد مضى في البقرة إلى آخر الآية..تفسير الآيات (172- 174): {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}فيه ست مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} أي واذكر لهم مع ما سبق من تذكير المواثيق في كتابهم ما أخذت من المواثيق من العباد يوم الذر. وهذه آية مشكلة وقد تكلم العلماء في تأويلها وأحكامها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه فقال قوم: معنى الآية أن الله تعالى أخرج من ظهور بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: معنى {أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرور أن له ربا واحدا. {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي قال. فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ}. ذهب إلى هذا القفال وأطنب.وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. قلت: وفي الحديث عن النبي صلى الله عيلة وسلم غير هذين القولين، وأنه تعالى أخرج الأشباح فيها الأرواح من ظهر آدم عليه السلام.وروى مالك في موطئة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} فقال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عنها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعلمون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون». فقال رجل: ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار». قال أبو عمر: هذا حديث منقطع الإسناد، لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر.وقال فيه يحيى بن معين: مسلم بن يسار لا يعرف، بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة، ذكره النسائي، ونعيم غير معروف بحمل العلم. لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل رجل منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال يا رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا؟ فقال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود فقال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم عليه السلام جاءه ملك الموت فقال أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال أو لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته». في غير الترمذي: فحينئذ أمر بالكتاب والشهود. في رواية: فرأى فيهم الضعف والغني والفقير والذليل والمبتلى والصحيح. فقال له آدم: يا رب، ما هذا؟ ألا سويت بينهم! قال: أردت أن أشكر.وروى عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس». وجعل الله لهم عقولا كنملة سليمان، واخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره. فأقروا بذلك والتزموه، وأعلمهم بأنه سيبعث إليهم الرسل، فشهد بعضهم على بعض. قال أبي بن كعب: وأشهد عليهم السماوات السبع، فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عليه العهد. واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال، فقال ابن عباس: ببطن نعمان، واد إلى جنب عرفة. وروي عنه أن ذلك برهبا- أرض بالهند- الذي هبط فيه آدم عليه السلام.وقال يحيى بن سلام قال ابن عباس في هذه الآية: أهبط الله آدم بالهند، ثم مسح على ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ثم قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} قال يحيى قال الحسن: ثم أعادهم في صلب آدم عليه السلام.وقال الكلبي: بين مكة والطائف.وقال السدي: في السماء الدنيا حين أهبط من الجنة إليها مسح على ظهره فأخرج من صفحة ظهره اليمنى ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم ادخلوا الجنة برحمتي. وأخرج من صفحة ظهره اليسرى ذرية سوداء وقال لهم ادخلوا النار ولا أبالي. قال ابن جريج: خرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاء، وكل نفس مخلوقة للنار سوداء.الثانية: قال ابن العربي رحمه الله: فإن قيل فكيف يجوز أن يعذب الخلق وهم لم يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم وساقهم إليه، قلنا: ومن أين يمتنع ذلك، أعقلا أم شرعا؟ فإن قيل: لأن الرحيم الحكيم منا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمرا يأمره وناهيا ينهاه، وربنا تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخالق، ولا تحمل أفعال العباد على أفعال الإله، وبالحقيقة الأفعال كلها لله جل جلاله، والخلق بأجمعهم له، صرفهم كيف شاء، وحكم بينهم بما أراد، وهذا الذي يجده الآدمي إنما تبعث عليه رقة الجبلة وشفقة الجنسية وحب الثناء والمدح، لما يتوقع فذلك من الانتفاع، والباري تعالى متقدس عن ذلك كله، فلا يجوز أن يعتبر به. واختلف في هذه الآية، هل هي خاصة أو عامة. فقيل: الآية خاصة، لأنه تعالى قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} فخرج من هذا الحديث من كان من ولد آدم لصلبه.وقال جل وعز: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل} فخرج منها كل من لم يكن له آباء مشركون.وقيل: هي مخصوصة فيمن أخذ عليه العهد على ألسنة الأنبياء.وقيل: بل هي عامة لجميع الناس، لأن كل أحد يعلم أنه كان طفلا فغذي وربي، وأن له مدبرا وخالقا. فهذا معنى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ}. ومعنى {قالُوا بَلى} 30 أي إن ذلك واجب عليهم. فلما اعترف الخلق لله سبحانه بأنه الرب ثم ذهلوا عنه ذكرهم بأنبيائه وختم الذكر بأفضل أصفيائه لتقوم حجته عليهم فقال له: {فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}.ثم مكنه من الصيطرة، وأتاه السلطنة، ومكن له دينه في الأرض. قال الطرطوشي: إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة، كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وقد نسيه.الرابعة: وقد استدل بهذه الآية من قال: إن من مات صغيرا دخل الجنة لإقراره في، الميثاق الأول. ومن بلغ العقل لم يغنه الميثاق الأول. وهذا القائل يقول: أطفال المشركين في الجنة، وهو الصحيح في الباب. وهذه المسألة اختلف فيها لاختلاف الآثار، والصحيح ما ذكرناه. وسيأتي الكلام في هذا في الروم إن شاء الله. وقد أتينا عليها في كتاب التذكرة والحمد لله.الخامسة: قوله تعالى: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {مِنْ بَنِي آدَمَ}. وألفاظ الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم، وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظ. ووجه النظم على هذا: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم ذريتهم. وإنما لم يذكر ظهر آدم لأن المعلوم أنهم كلهم بنوه. وأنهم أخرجوا يوم الميثاق من ظهره. فاستغنى عن ذكره لقوله: {مِنْ بَنِي آدَمَ}. {ذُرِّيَّتَهُمْ} قرأ الكوفيون وابن كثير بالتوحيد وفتح التاء، وهي تقع للواحد والجمع، قال الله تعالى: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} فهذا للواحد، لأنه إنما سأل هبة ولد فبشر بيحيى. وأجمع القراء على التوحيد في قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} ولا شيء أكثر من ذرية آدم. وقال: {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فهذا للجمع. وقرأ الباقون {ذرياتهم} بالجمع، لأن الذرية لما كانت تقع للواحد أتى بلفظ لا يقع للواحد فجمع لتخلص الكلمة إلى معناها المقصود إليه لا يشركها فيه شيء وهو الجمع، لأن ظهور بني آدم استخرج منها ذريات كثيرة متناسبة، أعقاب بعد أعقاب، لا يعلم عددهم إلا الله، فجمع لهذا المعنى.السادسة: قوله تعالى: {بَلى} تقدم القول فيها في البقرة عند قوله بلى من كسب سيئة مستوفى، فتأمله هناك. {أن يقولوا} {أو يقولوا} قرأ أبو عمرو بالياء فيهما. ردهما على لفظ الغيبة المتكرر قبله، وهو قول: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ}. وقوله: {قالُوا بَلى 30} أيضا لفظ غيبة. وكذا {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} {وَلَعَلَّهُمْ} فحمله على ما قبله وما بعده من لفظ الغيبة. وقرأ الباقون بالتاء فيهما، ردوه على لفظ الخطاب المتقدم في قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى}. ويكون {شَهِدْنا 130} من قول الملائكة. لما قالوا {بَلى} قالت الملائكة: {شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا} {أو تقولوا} أي لئلا تقولوا.وقيل: معنى ذلك أنهم لما قالوا بلى، فأقروا له بالربوبية، قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا قالوا شهدنا بإقراركم لئلا تقولوا أو تقولوا. وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي.وقال ابن عباس وأبي بن كعب: قوله: {شَهِدْنا 130} هو من قول بني آدم، والمعنى: شهدنا أنك ربنا وإلهنا، وقال ابن عباس: أشهد بعضهم على بعض، فالمعنى على هذا قالوا بلى شهد بعضنا على بعض، فإذا كان ذلك من قول الملائكة فيوقف على {بلى} ولا يحسن الوقف عليه إذا كان من قول بني آدم، لأن {أن} متعلقة بما قبل بلى، من قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ} لئلا يقولوا. وقد روى مجاهد عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم ألست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا أن تقولوا أي شهدنا عليكم بالإقرار بالربوبية لئلا تقولوا. فهذا يدل على التاء. قال مكي: وهو الاختيار لصحة معناه، ولأن الجماعة عليه. وقد قيل: إن قوله: {شهدنا} من قول الله تعالى والملائكة. والمعنى: فشهدنا على إقراركم، قاله أبو مالك، وروي عن السدي أيضا.{وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} أي اقتدينا بهم. {أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} بمعنى: لست تفعل هذا. ولا عذر للمقلد في التوحيد.
|